مقالة النسيان:
مقدمة: إذا كانت الذاكرة من حيث وظيفتها تعمل على حفظ الماضي وإسترجاعه عند الحاجة فإنها لا تقوى في بعض الحالات على إستدعاء جزء من هذا الماضي بالرغم من الجهد المبذول لإستحضاره وهذا يعني أن الذاكرة مرتبطة بالنسيان الذي يعرف بأنه الفقدان المؤقت أو الكلي أو الدائم للذكريات ومن هذه المقدمة نتسائل كيف يمكن التوفيق بين وظيفتين متناقضتين إحدهما تبني وتفيد والأخرى تدمر ؟ أو بعبارة أخرى متي يكون النسيان حقا مناقضا للذاكرة ومتى يكون شرطا لها ؟.
الموقف 1/إن النسيان ظاهرة سلبية تعيق وظيفة التذكر فهو يحدث بسبب تلاشي الذي يصب بعض ذكرياتنا التي تصبح مفككة فننس بعض أقسامها وقد تتلاشي ذكرياتنا ويصيبها النسيان بسبب الزمن فالنسيان حسب قانون بيبرون يتناسب طردا مع لوغاريتم الزمن أي أن الذكريات كلما تقادمت في الماضي كلما كان ذلك أدعى إلى النسيان لذلك قيل أن الذكريات شبيهة بالطلاء على الجدران فيكون براقا في أول الأمر لكنه مع الزمن يصير حائلا ويترتب على ذلك أن النسيان يحول دون التلائم مع المواقف المراهنة وأبرز ما تتجلى فيه وظيفة سلبية مظاهر الفشل والإخفاق في الامتحانات كعجر التلميذ عن الإجابة أثناء الامتحان بالرغم من جهده لتذكر المعلومات كما أن النسيان يبدوا في مجال إكتساب المعرفة والتحصيل العلمي عائقا خطيرا مما يبرر هذه الخطورة رأي بعض علماء التربية القائلين بأننا ننسى أكثر مما نتعلم لذلك كانت الذاكرة القوية نعمة لصاحبها { آفة العلم النسيان} هذا ويبدو النسيان مناقضا للذاكرة إذا نحن نظرنا إليه كظاهرة مرضية ومن هذه الأمراض نذكر فقدان الذاكرة ويعني اضمحلال الذكريات التي قد تكون جزئيا أو مؤقتا أو كليا أو دائما وأيضا أنحراف الذاكرة وهو مرض الذاكرة الكاذبة هو فساد العرفان أي الخبرات المشوهة ولا يعلم أنها كذلك وأيضا فرط الذاكرة وهي قوة إستدعاء الذكريات بتفاصيلها ويعرف أيضا عرض تضخم الذاكرة والنسيان المرضي يصيب الذاكرة ويقضى على حياتنا السوية فهو يلحق بالشخص أضرارا خطيرة تمس شعوره وشخصيته ويعرض الفيلسوف جون دولاي حالة شخص عمره 59 سنة مصاب بداء الكحول يملك ذكريات دقيقة عن ماضيه البعيد فيتحدث عن عمله في الجيش أثناء الحرب العالمية الأولى ويصف جميع الحوادث دون تحريف يذكر غير أنه منذ سنة تقريبا لا يستطيع الاحتفاظ بذكريات الحوادث التي يمر بها ولا يتعرف في المستشفى الذي يوجد فيه ولا على غرفته ولا حتي سريره وحتلا طريقه الذي يمر فيه ينساه ويبدوا وكأن وظيفة التذكر قد توقفت عن نشاطها إبتداء من فترة معينة كما يقدم لنا بيار جاني مثالا عن فقدان القدرة على استحضار الذكريات وهو نوع من الأمراض الأمينيزيا في قصة فتاة كانت تعالج أمها المريضة غير أن والدتها ماتت وهي تعالجها فأصيبت بصدمة نتج عنها إضطربات مختلفة كفقدان القدرة على التذكر الحادث بحيث انشطرت حالتها النفسية إلى قسمين تارة تنسي كل ما يتعلق بوالدتها وتارة أخرى تتذكر كل شيء .
نقد1/ لكن لما ينظر إلى النسيان على أنه وظيفة سلبية ؟ وعلى أنه عجز وفشل ؟ في حين أنه ليس مناقضا من الناحية النفسية للذاكرة وليس أيضا ظاهرة سلبية إن فقدان الآثار والأشياء الماضية بصورة تدريجية ظاهرة طبيعية ثم إننا من الناحية العلمية والنفسية نتذكر ما يفيدنا وينفعنا وماله قيمة بالنسبة لنا لأن التذكر معناه القيام بعملية اختيار حسب اهتماماتنا ومقتضياتنا .
الموقف 2/ يرى فرويد بهذا الصدد أننا ننسي بعض الحالات الماضية قصدا وهذه الحالات التي ننساها إراديا إنما هي الأحداث المؤلمة في ساحة الشعور فنطردها إلى اللاشعور وإذا نحن نظرنا إلى ما يؤديه النسيان من خدمات للذاكرة والإنسان بصفة عامة وجدناها كثيرة فلولا النسيان لما تقدمنا في تحصيل المعرفة خطوة واحدة فهو يسمح لنا باكتساب خبرات جديدة إذ يساعد الفرد على إبعاد بعض المعلومات التي ليس لها أي معنى والاهتمام بالمعلومات المفيدة التي نحتاجها في الوقت المناسب فلو كانت الذاكرة تملأ نفسها من كل شيء بحيث لا تغيب عنها دقائق الأشياء الماضية لأفتقد الفكر مرونته ولا استحال أن يستقيم ويسير على مجراه الطبيعي فمن شروط العقل السليم الإعراض مؤقتا عن التفاصيل الثانوية ووقوف على أهم ويترتب على هذا أن النسيان هو الوسيلة النفسية التي يستخدمها الشخص للتوافق مع شروط الراهنة التي تمس علاقته بالغير وحتى مع ذاته فإذا بقي الإنسان مثلا يتذكر دوما موت قريب له فحتما لن يعيش في توافق مع ذاته ومع المجتمع فالنسيان رحمة بين الأفراد وكذلك بين الأمم إذ يمحى أثار الحقد وموطن الآلام بين الحكام والمملوك وفي هذا المعنى يصرح ريبو فيقول {النسيان ليس مرضا من أمراض الذاكرة وإنما هو شرط من شروط سلامتها وبقائها} وهنا يتبين أن الذاكرة لا تستطيع القيام بوظيفتها بعيدا عن النسيان لأن الذاكرة السليمة تلك الذاكرة المشبعة بالذكريات الكثيرة دون إنتقاء وعزم ونسيان جزء منها وإنما {خير للذاكرة أن تكون ملكة نساءة}إننا لا نفرح إلا بفضل النسيان الإيجابية اقتراح دراسته وظيفة الذاكرة وعلاقتها بالنسيان طرف بعض الباحثين ذلك أنه ظهر لهم جليا أن وظيفة الذاكرة و النسيان يفتح المجال للانتباه والاهتمام اللذان لولاهما لما قطعنا خطوة واحدة إلى الاهتمام في حياتنا العلمية والعملية .
نقد2/ رغم ذلك فإن النسيان لا يجوز بوجه أو بأخر اعتباره وظيفة إيجابية دائمة إذ يعاني الكثير من النسيان خاصة حين نكون بحاجة ماسة إلى بعض الخبرات فتخوننا الذاكرة ويكون النسيان عدوا لصاحبه.
الخاتمة: وفي الأخير فإنما يمكن قوله هو أن النسيان المرضي مهما كانت أسببابه وطبيعته يعتبر ظاهرة سلبية معيقة لنشاط الفرد وفاعليته وهو على النقيض من النسيان الطبيعي العادي الذي تقضتيه الحياة اليومية وما يتخللها من أعمال ومشاكل لأننا لا نستطيع أن نتعلم شيئا جديدا إلا إذا نسينا مؤقتا تجاربنا وذكرياتنا الماضية ولولا هذا النوع من النسيان لما إستطاع الإنسان أن يتكيف مع المواقف الجديدة أو الطارئة .